فصل: ذكر مرض المأمون ووصيته

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ذكر مرض المأمون ووصيته

وفي هذه السنة مرض المأمون مرضه الذي مات فيه لثلاث عشرة خلت من جمادى الآخرة‏.‏

وكان سبب مرضه ذكره سعد بن العلاف القارئ قال‏:‏ دعاني المأمون يوما فوجدته جالسًا على جانب البذندون والمعتصم عن يمنينه وهما قد دليا أرجلهما في الماء فأمرني أن أضع رجلي في الماء وقال‏:‏ ذقه‏!‏ فهل رأيت أعذب منه أوأصفى صفاء أوأشد بردًا ففعلت وقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين‏!‏ ما رأيت مثله قط فقال‏:‏ أي شيء يطيب أن يؤكل ويشرب عليه هذا الماء فقلت‏:‏ أمير المؤمنين أعلم فقال‏:‏ الرطب الأزاذ‏.‏

فبيمنا هويقول هذا إذ سمع وقع لجم البريد فالتفت فإذا بغال البريد عليها الحقائب فيها الألطاف فقال لخادم له‏:‏ انظر إن كان في هذه الألطاف رطب أزاذ فأت به‏!‏ فمضى ومعه سلتان فيهما آزاذ كأمنا جني تلك الساعة فاظهر شكرًا لله تعالى وتعجبنا جميعا وأكلنا وشربنا من ذلك الماء فما قام أحد منا إلا وهومحموم وكانت منية المأمون من تلك العلة ولم يزل المعتصم مريضًا حتى دخل العراق وبقيت أنا مريضًا مدة‏.‏

فلما مرض المأمون أمر أن يكتب إلى البلاد الكتب من عبد الله المأمون أمير المؤمنين وأخيه الخليفة من بعده أبي إسحاق بن هارون الرشيد وأوصى إلى المعتصم بحضرة ابنه العباس وبحضرة الفقهاء والقضاة والقواد وكانت وصيته بعد الشهادة والإقرار بالوحدانية والبعث والجنة والصلاة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والأنبياء‏:‏ إني مقر مذنب أرجو وأخاف إلا أني إذا ذكرت عفوالله رجوت وإذا مت فوهوني وغمضوني وأسبغوا وضوئي وطهوري وأجيدوا كفني ثم أكثروا حمد الله على الإسلام ومعرفة حقه عليكم في محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ جعلنا من أمته المرحومة ثم أضجعوني على سريري ثم عجلوا بي وليصل علي أقربكم نسبًا وأكبركم سنا وليكبر خمسا ثم احملوني وابلغوا بي حفرتي ولينزل بي أقربكم قرابة وأودكم محبة‏.‏

وأكثروا من حمد الله وذكره ثم ضعوني على شقي الأيمن واستقبلوا بي القبلة ثم حلوا كفني

عن رأسي ورجلي ثم سدوا الحد باللبن وأحثوا ترابًا عليّ واخرجوا عني وخلوني وعملي وكلكم لا يغني عني شيئا ولا يدفع عني مكروها ثم قفوا بأجمعكم فقولوا خيرًا إن علمتم وأمسكوا عن ذكر شر إن كنتم عرفتم فإني مأخوذ من بينكم بما تقولون ولا تدعوا باكية عندي فإن المعول عليه يعذب رحم الله عبدًا اتعظ وفكر فيما حتم الله على خلقه من الفناء وقضى عليهم من الموت الذي لا بد منه فالحمد لله الذي توحد بالبقاء وقضى على جميع خلقه الفناء‏.‏

ثم لينظر فيه ما كنت من عز الخلافة هل عني ذلك شيئًا إذ جاء أمر الله لا والله ولكن أضعف علي به الحساب قيا ليت عبد الله بن هارون لم يكن بشرا بل ليته لم يكن خلقًا‏.‏

يا أبا إسحاق ادن منين واتعظ بما ترى وخذ بسيرة أخيك في القرآن والإسلام واعمل في الخلافة إذا طوقكها الله عمل المريد لله الخائف من عقابه وعذابه ولا تغتر بالله ومهلته وكأن قد نزل بك الموت ولا تغفل أمر الرعية والعوام فإن الملك بهم ويتعهدك لهم الله الله فيهم وفي غيرهم من المسلمين ولا ينتهين إليك أمر فيه صلاح للمسلمين ومنفعة إلا قدمته وآثرته على غيره من هواك‏.‏

وخذ من أقويائهم لضعفائهم ولا تحمل عليهم في شيء وأنصف بعضهم من بعض بالحق بينهم

وقربهم وتأن بهم وعجل الرحلة عني والقدوم إلى دار ملكك بالعراق وانظر هؤلاء القوم الذين أنت بساحتهم فلا تغفل عنهم في كل وقت والخرمية فأغرهم ذا حزامة وصرامة وجلد وأمنه بالأموال والجنود فإن طالت مدتهم فتجرد لهم بمن معك من أنصارك وأوليائك واعمل في ذلك عمل مقدم النية فيه راجيًا ثواب الله عليه‏.‏

ثم دعا المعتصم بعد ساعة حين اشتد الوجع وأحس بمجيء أمر الله فقال‏:‏ يا أبا إسحاق‏!‏ عليك عهد الله وميثاقه وذمة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لتقومن بحق الله في عباده ولتؤثرن طاعة الله على معصيته إذ أنا نقلتها من غيرك إليك قال‏:‏ اللهم نعم‏!‏ قال‏:‏ هؤلاء بن عمك من ولد أمير المؤمنين علي لوات الله عليه فأحسن صحبتهم وتجاوز عن مسيئهم واقبل من محسبنهم ولا تغفل صلاتهم في كل سنة عند محلها فغن حقوقهم تجب من وجوه شتى اتقوا الله ربكم حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون اتقوا الله واعملوا له اتقوا الله في أموركم كلها أستودعكم الله ونفسي وأستغفر الله ما سلف مني إنه كان غفارًا فإنه ليعلم كيف ندمي على ذنوبي فعليه توكلت من عظيمها وإليه أنيب ولا قوة إلا بالله حسبي الله ونعم الوكيل‏.‏

وصلى الله على محمد نبي الهدى والرحمة‏.‏

وفي هذه السنة توفي المأمون لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب فلما اشتد مرضه وحضره الموت كان عنده من يلقنه فعرض عليه الشهادة وعنده ابن ماسويه الطبيب فقال لذلك الرجل‏:‏ دعه فإنه لا يفرق في هذه الحال بين ربه وماني ففتح المأمون عينيه وأراد أن يبطش به فعجز عن ذلك وأراد الكلام فعجز عنه ثم إنه تكلم فقال‏:‏ يا من لا يموت ارحم من يموت ثم توفي من ساعته‏.‏

ولما توفي حمله ابنه العباس وأخوه المعتصم إلى طرسوس فدفناه بدار خاقان خادم الرشيد وصلى عليه المعتصم ووكلوا به حرسًا من أبناء أهل طرسوس وغيرهم مائة رجل وأجري على كل رجل منهم تسعون درهمًا‏.‏

وكانت خلافته عشرين سنة وخمسة أشهر وثلاثة وعشرين يومًا سمى سنين كان دعي له فيها بمكة وأخوه الأمين محصور ببغداد وكان مولده للنصف من ربيع الأول سنة سبعين ومائة وكانت كنيته أبا العباس وكان ربعة أبيض جميلا طويل اللحية رقيقها قد وخطها الشيب وقيل كان أسمر تعلوه صفرة أجنى أعين ضيق البلجة بخده خال أسود‏.‏

وقال محمد بن صالح السرخسي‏:‏ تعرض رجل للمأمون بالشام مرارا وقال‏:‏ يا أمير المؤمنين‏!‏ انظر لعرب الشام كما نظرت لعجم خراسان‏!‏ فقال له‏:‏ أكثرت عليّ والله ما أنزلت قيسًا من ظهور خيولها إلا وأنا أرى أنه لم يبق في بيت مالي درهم واحد يعني فتنة ابن شبث العامري وأما اليمن فوالله ما أحببتها ولا أحبتني قط وأما قضاعة فساداتها تنتظر السفياني حتى تكون من أشياعه وأما ربيعة فساخطة على ربها مذ بعث الله نبيه من مضر ولم يخرج اثنان إلا وخرج أحدهما شاريًا أعزب فعل الله بك‏.‏

وذكر سعيد بن زياد أنه لما دخل على المأمون بدمشق قال له‏:‏ أرني الكتاب الذي كتبه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال‏:‏ فأريته قال فقال‏:‏ إني لأشتهي أن أدري ايش هذا الغشاء على هذا الخاتم قال‏:‏ فقال له المعتصم‏:‏ حل العقد حتى تدري ما هو‏!‏ وقال‏:‏ ما أشك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عقد هذا العقد وما كنت لأحل عقدة عقدها رسول الله صلى اله عليه وسلم ثم قال للواثق‏:‏ خذه وضعه على عينيك لعل الله أن يشفيك‏!‏ وجعل المأمون يضعه على عينيه ويبكي‏.‏

وقال العيشي صاحب إسحاق بن إبراهيم‏:‏ كنت مع المأمون بدمشق وكان قد قل المال عنده حتى أضاق وشكا ذلك إلى المعتصم فقال له‏:‏ يا أمير المؤمنين‏!‏ كأنك بالمال وقد وافاك بعد

جمعه وكان قد حمل إليه ثلاثون ألف ألف درهم من خراج ما يتولاه له فلما ورد عليه المال قال المأمون ليحيى بن أكثم‏:‏ اخرج بنا ننظر هذا المال فخرجا ينظرانه وكان قد هيئ بأحسن هيئة وحليت أباعره فنظر المأمون إلى شيء حسن واستكثر ذلك واستبشر به والناس ينظرون ويعجبون فقال المأمون‏:‏ يا أبا محمد ننصرف بالمال وأصحابنا يرجعون خائبين إن هذا للؤم‏!‏ ثم دعا محمد بن يزداد فقال له‏:‏ وقع لآل فلان بألف ألف ولآل فلان بمثلهأن ولآل فلان بمثلها فما زال كذلك حتى فرق أربعة وعشرين ألف ألف ورجله في الركاب ثم قال‏:‏ ادفع الباقي إلى المعلي يعطيه جندنا‏.‏

قال العيشي‏:‏ فقمت نصب عينيه أنظر إليهما فلما رآني كذلك قال‏:‏ وقع لهذا بخمسين ألفًا فقبضتها‏.‏

وذكر عن محمد بن أيوب بن جعفر بن سليمان أنه كان بالبصرة رجل من بني تميم بن سعد وكان شاعرًا ظريفًا خبيثًا منكرا وكنت آنس به واستحليه فقالت له‏:‏ أنت شاعر وأنت ظريف والمأمون أجود من السحاب الحافل فما يمنعك منه فقال‏:‏ ما عندي ما يحملني‏.‏

فقلت‏:‏ أنا أعطيك راحلة ونفقة فأعطيته راحلة نجيبة وثلاثمائة درهم فعمل أرجوزة ليست بالطويلة ثم سار إلى المأمون‏.‏

قال‏:‏ فجئت إليه وهوبسلغوس قال‏:‏ فلبست ثيابي وأنا أروم بالعسكر وإذا بكهل على بغل فاره فتلقاني مواجهة وأنا أردد نشيد أرجوزتي فقال‏:‏ السلام عليك‏.‏

فقلت‏:‏ عليكم السلام ورحمة الله وبركاته قال‏:‏ قف إن شئت‏!‏ فوقفت فتضوعت منه رائحة المسك والعنبر فقال‏:‏ ما أولك قلت‏:‏ رجل من مضر‏.‏

قال‏:‏ ونحن من مضر ثم قال‏:‏ ماذا قلت‏:‏ من بني تميم قال‏:‏ وما بعد تميم قلت‏:‏ من بني سعد قال‏:‏ وما أقدمك قلت‏:‏ قصدت هذا الملك الذي ما سمعت بمثله أندى رائحة ولا أوسع راحة قال‏:‏ فما الذي قصدته به قلت‏:‏ شعر طيب يلذ على الأفواه ويحلوفي آذان السامعين قال‏:‏ فأنشدنيه‏!‏ فغضبت‏:‏ وقلت‏:‏ يا ركيك أخبرتك أني قصدت الخليفة بمديح تقول‏:‏ أنشدنيه فتغافل عنها وألغى عن جوابها فقال‏:‏ فما الذي تأمل منه قلت‏:‏ إن كان على ما ذكر لي فألف دينار قال‏:‏ أنا أعطيك ألف دينار إن رأيت الشعر جيدا والكلام عذبا وأضع عنك العناء وطول الترداد حتى تصل إلى الخليفة وبينك عشرة آلاف رامح ونابل قلت‏:‏ فلي عليك الله أن تفعل‏!‏ قال‏:‏ نعم لك الله علي أن أفعل فأنشدته‏:‏ مأمون يا ذا المنزلة الشريفة وصاحب المرتبة المنيفة وقائد الكتيبة الكثيفة هل لك في أرجوزة ظريفه أظرف من فقه أبي حنيفة لا والذي أنت له خليفة وما اجتبى سوى الوظيفه فالذئب والنعجة في سقيفه واللص والتاجر في قطيفه قال‏:‏ فوالله ما عدا أن بلغت ها هنا فإذا زهاء عشرة آلاف فارس قد سدوا الأفق يقولون‏:‏ السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته‏.‏

قال‏:‏ فأخذتني رعدة فنظر إلي بتلك الحال فقال‏:‏ لا بأس عليك أي أخي قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين جعلني الله فداك من جعل الكاف مكان القاف من العرب قال‏:‏ جمير قلت‏:‏ لعن الله حمير ولعن من استعمل هذه اللغة بعد اليوم‏.‏

وضحك المأمون وقال لخادم معه‏:‏ أعطه ما معك فأخرج كيسًا فيه ثلاثة آلاف دينار فأخذتها ومضيت‏.‏

ومعنى سؤاله عن وضع الكاف موضع القاف أنه أراد أن يقول يا رقيق فقال‏:‏ يا ركيك‏.‏

وقال عمارة بن عقيل‏:‏ أنشدت المأمون قصيدة مائة بيت فأبتدئ بصدر البيت فيبادرني إلى قافيته كما قفيته قلت‏:‏ والله يا أمير المؤمنين ما سمعها مني أحد قط فقال‏:‏ هكذا ينبغي أن يكون ثم قال لي‏:‏ أما أبلغك أن عمر بن أبي ربيعة أنشد عبد الله بن عباس قصيدته التي يقول فيها‏:‏ يشط عداذًا وجيراننا فقال ابن عباس‏:‏ وللدار بعد غد أبعد حتى انشده القصيدة يقفيها ابن

بعثتك مرتادًا ففزت بنظرة وأغفلتني حتى أسأت بك الظنا فناجيت من أهوى وكنت مباعدًا فيا ليت شعري عن دنوك ما أغنى أرى أثرًا منه بعينيك بينًا لقد أخذت عيناك من عينه حسنا قيل‏:‏ وإمنا أخذ المأمون هذا المعنى من العباس بن الأحنف فإنه أخرج هذا المعنى فقال‏:‏ إن تشق عيني بها فقد سعدت عين رسولي وفزت بالخبر وكلما جاءني الرسول لها رددت عمدًا في عينه نظري خذ مقلتي يا رسول عارية فانظر بها واحتكم على بصري قيل‏:‏ وشكا اليزيدي يومًا إلى المأمون دينًا لحقه فقال‏:‏ ما عندي في هذه الأيام ما إن أعطيناك بلغت به ما تريد فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن غرمائي قد أرهقوني قال‏:‏ انظر لنفسك أمرًا تنال به نفعا قال‏:‏ إن لك ندماء فيهم من حركته نلت به نفعًا‏.‏

قال‏:‏ أفعل قال‏:‏ إذا حضروا عندك فمر فلانًا الخادم يوصل رقعتي إليك فإذا قرأتها فأرسل إلي‏:‏ دخولك في هذا الوقت متعذر ولكن اختر لنفسك من أحببت قال‏:‏ أفعل فلما علم اليزيدي جلوس المأمون مع ندمائه وتيقن أنهم قد أخذ الشراب منهم أتى الباب فدخل فدفع إلى الخادم رقعته فإذا فيها‏:‏ يا خير إخواني وأصحابي‏!‏ هذا الطفيلي على الباب فصيروني واحدًا منكم أواخرجوا لي بعض أترابي فقرأها المأمون عليهم وقالوا‏:‏ ما ينبغي أن يدخل علينا على مثل هذه الحال فأرسل إليه المأمون‏:‏ دخولك في هذا الوقت متعذر فاختر لنفسك من أحببت‏!‏ فقال‏:‏ ما أريد إلا عبد الله بن طاهر فقال له المأمون‏:‏ قد اختارك فصر إليه‏!‏ قال‏:‏ يا أمير المؤمنين وأكون شريك الطفيلي فقال‏:‏ ما يمكن رد أبي محمد عن أمرين فإن أحببت أن تخرج إليه وإلا فافتد نفسك منه‏!‏ فقال‏:‏ علي عشرة آلاف قال‏:‏ لا يقنعه فما زال يزيد عشرة عشرة والمأمون يقول لا يقنعه حتى بلغ مائة ألف فقال له المأمون‏:‏ فعجله فكتب بها إلى وكيله ووجه معه رسولا وأرسل إلي المأمون‏:‏ قبض هذه الدراهم في هذه الساعة أصلح من منادمته وأنفع لك‏.‏

وقال عمارة بن عقيل‏:‏ قال لي عبد اله بن أبي السمط‏:‏ أعلمت أن المأمون لا يبصر الشعر قلت‏:‏ ومن يكون أعلم منه فوالله إنا لننشده أول البيت فيسبقنا إلى آخره‏.‏

قال‏:‏ إني أنشدته بيتًا أجدت فيه فلم يتحرك له قلت‏:‏ وما هو قال‏:‏ أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلًا بالدين والناس بالدنيا مشاغيل قال فقلت‏:‏ والله ما صنعت شيئا وهل زدت على أن جعلته عجوزًا في محرابها فمن الذي يقوم بأمر الدنيا إذا تشاغل عنها وهوالمطوق بها هلا قلت كما قال جدي جرير في عبد فلا هوفي الدنيا يضيع نصيبه ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله فقال‏:‏ الآن علمت أني قد أخطأت‏.‏

قال أبوالعباس أحمد بن عبد الله ابن عمار‏:‏ كان المأمون شديد الميل إلى العلويين والإحسان إليهم وخبره مشهور معهم وكان يفعل ذلك طبعًا لا تكلفا فمن ذلك أنه توفي في أيامه يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين العلوي فحضر الصلاة عليه بنفسه ورأى الناس عليه من الحزن والكآبة ما تعجبوا منه ثم إن ولدًا لزينب بنت سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس وهي ابنة عم المنصور توفي بعده فأرسل له المأمون كفنا وسيره صالحًا ليصلي عليه ويعزي أمه فإنها كانت عند العباسيين بمنزلة عظيمة فأتاها وعزاها عنه واعتذر عن تخلفه عن الصلاة عليه فظهر غضبها وقالت لابن ابنها‏:‏ تقدم فصل علي أبيك وتمثلت‏:‏ سبكناه ونحسبه لجينًا فأبدى الكير عن خبث الحديد ثم قالت لصالح‏:‏ قل له يابن مراجل‏:‏ أما لوكان يحيى بن الحسين ابن زيد لوضعت ذيلك على فيك وعدوت خلف جنازته‏.‏

  ذكر خلافة المعتصم

هوأبوإسحاق محمد بن هارون الرشيد بويع له بالخلافة بعد موت المأمون ولما بويع له شغب الجند ونادوا باسم العباس بن المأمون فأرسل إليه المعتصم فأحضره فبايعه ثم خرج إلى الجند فقال‏:‏ ما هذا الحب البارد قد بايعت عمي فسكتوا وأمر المعتصم بخراب ما كان المأمون أمر ببنائه من طوانة مما نذكره في عدة حوادث وحمل ما أطاق من السلاح والآلة التي بها وأحرق الباقي وأعاد الناس الذين بها إلى البلاد التي لهم وانصرف إلى بغداد ومعه العباس بن المأمون فقدمها مستهل شهر رمضان‏.‏

  ذكر خلاف فضل على زيادة الله

وفي هذه السنة وجه زيادة الله بن الأغلب صاحب إفريقية جيشًا لمحاربة فضل بن أبي العنبر بالجزيرة وكان مخالفًا لزيادة الله فاستمد فضل بعد السلام بن المفرج الربعي وكان أيضًا مخالفًا من عهد منصور كما ذكرنا فسار إليه فالتقوا مع عسكر زيادة الله وجرى بين الطائفتين قتال شديد عند مدينة اليهود بالجزيرة فقتل عبد السلام وحمل رأسه إلى زيادة الله‏.‏

وسار فضل بن أبي العنبر إلى مدينة تونس فدخلها وامتنع بها فسير زيادة الله إليه جيشا فحصروا فضلًا بها وضيقوا عليه حتى فتحوها منه وقتل وقت دخول العسكر كثير من

أهلها منهم‏:‏ عباس بن الوليد الفقيه وكان دخل في بيته لم يقاتل فدخل عليه بعض الجند فأخذ سيفه وخرج وهويصيح‏:‏ الجهاد فقتل وبقي ملقى في خربة سبعة أيام لم يقربه ذوناب ولا مخلب وكان قد سمع الحديث من ابن عيينة وغيره وكان من الصالحين وهرب كثير من أهل تونس لما ملكت ثم آمنهم زيادة الله فعادوا إليها‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة عاد المأمون إلى سلغوس ووجه ابنه العباس إلى طوانة وأمره ببنائها وكان قد وجه الفعلة فابتدأوا في بنائها ميلًا بعد ميل وجعل سورها على ثلاثة فراسخ وجعل لها أربعة أبواب وجعل على كل باب حصنا وكتب إلى البلدان ليفرضوا على كل بلد جماعة ينتقلون إلى طوانة وأجرى لهم لكل فارس مائة درهم ولكل راجل أربعين درهم‏.‏

وفيها توفي بشر بن غياث المريسي وكان يقول بخلق القرآن والإرجاء وغيرهما من البدع‏.‏

وفيها دخل كثير من أهل الجبال وهمذان وأصبهان وماسبذان وغيرها في دين الخرمية وتجمعوا فعسكروا في عمل همذان فوجه إليهم المعتصم العساكر وكان فيهم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب وعقد له على الجبال في شوال فسار إليهم فأوقع بهم في أعمال همذان

فقتل منهم ستين ألفا وهرب الباقون إلى بلد الروم وقرئ كتابه بالفتح يوم التروية وحج بالناس هذه السنة صالح بن العباس بن محمد‏.‏

  حوادث سنة تسع عشرة ومائتين

  ذكر خلاف محمد بن القاسم العلوي

في هذه السنة ظهر محمد بن القاسم بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام بالطالقان من خراسان يدعوإلى الرضي من آل محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏.‏

وكان ابتداء أمره أنه كان ملازمًا مسجد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حسن السيرة فأتاه إنسان من خراسان اسمه أبومحمد كان مجاورا فلما رآه أعجبه طريقه فقال له‏:‏ أنت أحق بالإمامة من كل أحد وحسن له ذلك وبايعه وصار الخراساني يأتيه بالنفر بعد النفر من حجاج خراسان يبايعونه فعل ذلك مدة‏.‏

فلما رأى كثرة من بايعه من خراسان سارا جميعًا إلى الجوزجان واختفى هناك وجعل أبومحمد يدعوالناس إليه فعظم أصحابه وحمله أبومحمد على إظهار أمره فأظهره بالطالقان فاجتمع إليه بها ناس كثير وكانت بينه وبين قواد عبد الله بن طاهر وقعات بناحية الطالقان

فلما صار بنسأن وبها والد بعض من معه فلما بصر به سأله عن الخبر فأخبره فمضى الأب إلى عامل نسأن فأخبره بأمر محمد بن القاسم فأعطاه العامل عشرة آلاف درهم على دلالته وجاء العامل إلى محمد فأخذه واستوثق منه وبعثه إلى عبد الله بن طاهر فسيره إلى المعتصم فورد إليه منتصف شهر ربيع الأول فحبس عند مسرور الخادم الكبير وأجرى عليه الطعام ووكل به قومًا يحفظونه فلما كان ليلة الفطر اشتغل الناس بالعيد فهرب من الحبس دلي إليه حبل من كوة كانت في أعلى البيت يدخل عليه منها الضوء فلما أصبحوا أتوه بالطعام فلم يروه فجعلوا لمن دل عليه مائة ألف فلم يعرف له خبر‏.‏

  ذكر محاربة الزط

وفيها وجه المعتصم عجيف بن عنبسة في جمادى الآخرة لحرب الزط الذين كانوا غلبوا على طريق البصرة وعاثوا وأخذوا الغلات من البيادر بكسكر وما يليها من البصرة وأخافوا السبيل ورتب عجيف الخيل في كل سكة من سكك البريد تركض بالأخبار فكان يأتي بالأخبار من عجيف في يوم فسار حتى نزل تحت واسط وأقام على نهر يقال له بردودا حتى سدة وأنهارًا أخر كانوا يخرجون منها ويدخلون وأخذ عليهم الطرق ثم حاربهم فأسر منهم في معركة واحدة خمسمائة رجل وقتل في المعركة ثلاثمائة رجل فضرب أعناق الأسرى وبعث الرؤوس إلى باب المعتصم‏.‏

ثم أقام عجيف بإزاء الزط خمسة عشر يوما فظفر منهم فيها بخلق كثير وكان رئيس الزط رجل يقال له محمد بن عثمان وكان صاحب أمره إنسان يقال له سماق ثم استوطن عجيف وأقام بإزائهم سبعة أشهر‏.‏

  ذكر محاصرة طليطلة

في هذه السنة سير عبد الرحمن بن الحكم الأموي صاحب الأندلس جيشًا مع أمية بن الحكم إلى مدينة طليطلة فحصرها وكانوا قد خالفوا الحكم وخرجوا عن الطاعة واشتد في حصرهم وقطع أشجارهم وأهلك زروعهم فلم يذعنوا إلى الطاعة فرحل عنهم وأنزل بقلعة رباح جيشًا عليهم ميسرة المعروف بفتى أبي أيوب فلما أبعدوا منه خرج جمع كثير من أهل طليطلة لعلهم يجدون فرصة وغفلة من ميسرة فينالوا منه ومن أصحابه غرضا وكان ميسرة قد بلغه الخبر فجعل الكمين في مواضع فلما وصل أهل طليطلة إلى قلعة رباح للغارة خرج الكمين عليهم من جوانبهم ووضعوا السيف فيهم وأكثروا القتل وعاد من سلم منهم منهزمًا إلى طليطلة وجمعت رؤوس القتلى وحملت إلى ميسرة فلما رأى كثرتها عظمت عليه وارتاع لذلك ووجد في نفسه غمًا شديدا فمات بعد أيام يسيرة‏.‏

وفيها أيضًا كان بطليطلة فتنة كبيرة تعرف بملحمة العراس قتل من أهلها كثير‏.‏

  ذكر عدة حوادث

وفيها أحضر المعتصم أحمد بن حنبل وامتحنه بالقرآن فلم يجب إلى القول بخلقه فأمر به فجلد جلدًا عظيمًا حتى غاب عقله وتقطع جلده وحبس مقيدًا‏.‏

وفيها قدم إسحاق بن إبراهيم إلى بغداد في جمادى الأولى ومعه من أسرى الخرمية خلق كثير وقيل إنه قتل منهم نحومائة ألف سوى النساء والصبيان‏.‏

وفيها توفي أبونعيم الفضل بن دكين الملائي مولى طلحة بن عبد الله التيمي في شعبان وهومن مشايخ البخاري ومسلم كان مولده سنة ثلاثين ومائة وكان شيعيًا وله طائفة تنسب إليه يقال لها الدكينية‏.‏

 حوادث سنة عشرين ومائتين

  ذكر ظفر عجيف بالزط

وفي هذه السنة دخل عجيف بالزط بغداد بعد أن ضيق عليهم وقاتلهم وطلبوا منه الأمان فأمنهم فخرجوا إليه في ذي الحجة سنة تسع عشرة ومائتين وكانت عدتهم مع النساء والصبيان سبعة وعشرين ألفا والمقاتلة منهم اثنا عشر ألفا فلما خرجوا إليه جعلهم في السفن وعبأهم في سفنهم على هيئتهم في الحرب معهم البوقات حتى دخل بهم بغداد يوم عاشوراء من هذه السنة‏.‏

وخرج المعتصم إلى الشماسية في سفينة يقال لها الزو حتى يمر به الزط على تعبئتهم وهم ينفخون في البوقات وأعطى عجيف أصحابه كل رجل دينارين دينارين وأقام الزط في سفنهم ثلاثة أيام ثم نقلوا إلى الجانب الشرقي وسلموا إلى بشر بن السميدع فذهب بهم إلى خانقين ثم نقلوا إلى الثغر إلى عبن زربة و فأغارت الروم عليهم فاجتاحوهم فلم يفلت منهم أحد‏.‏

  ذكر مسير الأفشين لحرب بابك الخرمي

وفي هذه السنة عقد المعتصم للأفشين حيدر بن كاوس على الجبال ووجهه لحرب بابك فسار إلي‏.‏

وكان ابتداء خروج بابك سنة إحدى ومائتين فكانت مدينته البذ وهزم من جيوش السلطان

عدة وقتل من قواده جماعة فلما أفضى الأمر إلى المعتصم وجه أبا سعيد محمد بن يوسف إلى أردبيل وأمره أن يبني الحصون التي أخربها بابك فيما بين زنجان وأردبيل ويجعل فيها الرجال تحفظ الطرق لمن يجلب الميرة إلى أردبيل فتوجه أبوسعيد لذلك وبنى الحصون‏.‏

ووجه بابك سرية في بعض غزاته فأغارت على بعض النواحي ورجعت منصرفة وبلغ ذلك أبا سعيد فجمع الناس وخرج في طلب السرية فاعترضها في بعض الطرق فاقتتلوا قتالًا شديدا فقتل أبوسعيد من أصحاب بابك جماعة وأسر جماعة واستذ ما كانوا أخذوه وسير الرؤوس والأسرى إلى المعتصم فكانت هذه أول هزيمة على أصحاب بابك‏.‏

ثم كانت الأخرى لمحمد بن البعيث وذلك أن محمدًا كان في قلعة له حصينة تسمى الشاهي كان ابن البعيث قد أخذها من ابن الرواد وهي من كورة أذربيجان وله حصن آخر من أذربيجان يسمى تبريز وكان مصالحًا لبابك تنزل سراياته عنده فيضيفهم حتى أنسوا به ثم إن بابك وجه قائدًا اسمه عصمة من أصبهبذيته في سرية فنزل بابن البعيث فأنزل له الضيافة على عادتها واستدعاه له في خاصته ووجوه أصحابه فصعد فغذاهم وسقاهم الخمر حتى سكروا ثم وثب على عصمة فاستوثق منه وقتل من كان معه من أصحابه وأمره أن يسمي رجلًا رجلًا من أصحابه فكان يدعوالرجل باسمه فيصعد فيضرب عنقه حتى علموا بذلك بهربوا وسير عصمة إلى المعتصم فسأل المعتصم عصمة عن بلاد بابك فأعلمه طرقه ووجوه القتال فيها ثم ترك عصمة محبوسا فبقي إلى أيام الواثق‏.‏

ثم أن الأفشين سار إلى بلاد بابك فنزل برزند وعسكر بها وضبط الطرق والحصون فيما بينه وبين أردبيل وأنزل محمد بن يوسف بموضع يقال له خش فحفر خندقًا وأنزل الهيثم الغنوي برستاق أرشق فأصلح حصنه وحفر خندقه وأنزل علويه الأعور من قواد الأبناء في حصن النهر مما يلي أردبيل فكانت والقوافل تخرج من أردبيل ومعها من يحيمها حتى تنزل بحصن النهر ثم يسيرها صاحب حصن النهر إلى الهيثم الغنوي فيلقاه الهيثم بمن جاء إليه من ناحية في موضع معروف لا يتعداه أحدهم إذا وصل إليه فإذا لقيه أخذ ما معه وسلم إليه ما معه ثم يسير الهيثم بمن معه إلى أصحاب أبي سعيد فيلقونه بمنتصف الطريق ومعهم من خرج من العسكر فيتسلمون ما مع الهيثم ويسلمون إليه ما معهم وإذا سبق أحدهم إلى المنتصف لا يتعداه ويسير أبوسعيد بمن معه إلى عسكر الأفشين فيلقاه صاحب سيارة الأفشين فيتسلمهم منه ويسلم إليه من صحبه من العسكر فلم يزل الأمر على هذا‏.‏

وكانوا إذا ظفروا بأحد من الجواسيس حملوه إلى الأفشين فكان يحسن إليهم ويهب لهم ويسألهم عن الذي يعطيهم بابك فيضعفه لهم ويقول لهم‏:‏ كونوا جواسيس لنا فكان ينتفع